يوم بين " الصُم " / مشاهد من احتفالية اخوتنا الصامتين

اثنين, 22/04/2019 - 10:21

كتب سيدي محمد ولد بلعمش

مرت بي في ذلك المساء حالة نفسية خاصة لا يمكن أن أتجاسر و أصفها بالحزن و لا يمكن أن أتجرد من مضمونها و أصفها بالفرح .. لقد كانت حالة فريدة أحيت في أشجانا و لواعجا و مشاعرا  ربما تمر بي في وقت واحد لأول مرة

كانت دعوة عابرة من أخت كريمة ـ مثل عديد الدعوات التي اتلقاها يوميا ـ المناسبة : الأسبوع الوطني للصم ، المكان : فندق نواكشوط قبالة قصر المؤتمرات القديم ، الزمان : مساء الأحد 21/04/2019 الذي كان يفترض أن أحضر فيها ندوة أخرى يقيمها التيار الناصري لتأبين ضحايا ثورة 1984 ، أو أن ألبي دعوة سيد كبير من شنقيط في منزله .. كنت أظن الوقت يسع الثلاثة لكن المشهد هالني و لم أخرج المكان إلا بعد صلاة المغرب

ما إن دخلت الفندق حتى أشار علي شاب أصم ان استخدم المصعد بدل السلم ، ظننت ان الندوة في الطابق الثالث او الرابع فلم أستطع أن أرد كرمه لكنه ضغط مع دخولي إلى المصعد على الرقم 01 و سريعا وصلت حيث كان في استقبال أصم آخر ... ففهمت أن الأمر تحضير نفسي لما أنا مقبل عليه

دخلت القاعة و بالكاد وجدت مكانا ، كان الجميع يتكلم .. لكن لا ضجة في المكان ، فقط حركة الأيدي و الإشارات افقدتني التركيز .. !

جلست خلف شابين أنيقين - أعمارهما دون الأربعين بقليل- أحدهما أبيض البشرة يلبس دراعة أنيقة و بيده ساعة و يضع سماعة خفيفة في أذنه اما الآخر فقد كان أسودا يضع نظارات طبية جميلة و يبلس  بذلة من دون ربطة عنق ـ الأرجح ـ ان يكون من قومية موريتانية غير عربية كنت اتابع حديثهما دون ان افهم شيئا لكنهما كان في غاية الانسجام فرحا أحيانا و استغرابا و انتباها أحيانا أخرى ، فكرت ان ذلك العربي الأصم أقدر على التواصل مع صنوه الزنجي مني على التواصل مع كثير من اخوتي من هذه القومية ...

كان مشهد الشابين عينة واحدة من عشرات الحالات المشابهة بين المتحدثين الصامتين .. كانت الايدي ترتفع و تنخفض و الأصابع تتقدم و تتأخر بحسب نوع الإشارة ، أحيانا تكفي يد واحدة لإشارة واحدة و أحيانا يلزم أن تساعدها اليد أخرى و أحيانا يلزم إدخال الوجه كي يساعد في الإشارة ،

اعترف بقصوري عن فهمي لأي شيء من عشرات الدردشات التي حصلت بجانبي رغم انتباهي و استعدادي لفمهما ، من المؤكد أنها لا تشبه تلك الإشارات التي اخترعتها من نفسي للتواصل مع أصم بقريتنا أجرته سنوات لسقي حديقة نخيل للعائلة ..

 

 سألاحظ لاحقا أن بعض المتحدثين ليسوا صمًا ، هم فقط متعاطفون مع هذه الطائفة من المجتمع ، فرضت عليهم ظروف معينة تعلم لغة الإشارة و بعضهم أقارب لصم

بدت بعض فقرات الحفل مفيدة و لافتة حيث انتبه لأول مرة أن للصم طرقا في التنبيه التي تعتمد على البصر و ليس على السمع المفقود ،من ذلك فقرة ينزعج فيها أصم يفتح بيته بالصدفة فإذا طارق أمضى كثيرا من الوقت يطرق الباب دون أن يجد مهتما ،  ليعطيه  درسا في طرق تنبيه الصم مثلا  أن يعتمد مستقبلا على تشغيل مصباح الكهرباء ..

عرفت أن الصم يصفقون بطريقة خاصة لا تعتمد هي الأخرى على صوت اليدين و إنما على ابرازهما عاليا و التلويح بهما ..

أما اللافت فهو ترجمة الصم للنشيد الوطني بلغة الإشارة حيث كان فيديو النشيد مؤثرا ..

في القاعة فريق لكرة القدم يلبس زيا بألوان وطنية تحدث رئيسه عن الصعوبة التي يلقونها للمشاركة في مباراة دولية .. ، و فيها فريق من كشافة الصم بدووا متحمسين هم من فتحوا عني المصعد عن وصولي .. و في حفل الصم هذا كان رسميون و خطب و تكريمات و معرض لم اجد وقتا لزيارته ، لكن الملاحظة الأبرز هي اندفاع الجميع صما و متعاطفين على انجاحه

و بين لغة الصمت التي عشت مساءً منها صاخبا و لغتنا التي عجرت أن توصل أغانينا لإخوتنا هناك دعوة للتواصل قالها شاعر راحل احس بهم دون أن نشعر رغم قربنا منه  :

جِسْرُ التَّحَايَا إِشَارَةُ الصَّمَمِ ـ ـ ـ فَاعْبُرْ عَلَى ظَهْرِهِ وَ لَا تَلُمِ

 

لَرُبَّمَا أَنْتَ مَنْ يُقَيِّدُهُ ـ ـ ـ بِالْعَجْزِ سِحْرُ الْبَيَانِ وَ الْكَلِمِ

 

لَوْ أَكْثَرُ النَّاسِ كَانَ يَشْبِهُنِي ـ ـ ـ لَأَصْبَحَ النُّطْقُ مَنْبَعَ الْأَلَمِ

 

دُنْيَاكَ قَبْلَ الْوُجُودِ صَامِتَةٌ ـ ـ ـ وَ نَحْوَ صَمْتِ الْفَنَاءِ وَ الْعَدَمِ

السلام عليكم

تصفح أيضا...